في مثل هذا اليوم 25 نوفمبر 1875م..
الخديوي إسماعيل يبيع أسهم مصر في قناة السويس لبريطانيا، وكان يقدر عدد الأسهم بمائة وسبعين ألف سهم.
يقول إلياس الأيوبي، في المجلد الأول من كتابه «تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا»، لا يسع المرء إذا شاهد مصر فيما كانت عليه، يوم ارتقى إسماعيل عرش مصر وما وصلت إليه من حضارة وتقدم، يوم اعتزاله الأريكة الخديوية، فقد اعتلى إسماعيل أريكة مصر والبلاد لم تُشفَ بعد من ظلمات القرون الوسطى التى حاول محمد علي أن ينتشل الناس منها، وفي الداخل كانت الامتيازات التى منحتها الدولة العثمانية لرعايا الدول الأجنبية حِملاً ثقيلاً على عاتق المصريين، أما في الخارج فكانت مصر مفقودة المكانة لا يعرفها على حقيقتها إلا النفر القليل.
بالرغم من حسنات الخديو إسماعيل إلا أنه كانت له سيئات، لم يغفرها التاريخ أبدًا، يُعد أبرزها بيع أسهم قناة السويس للإنجليز، هربًا من الديون التى لاحقته كثيرًا.
ي مقال الكاتب، جيمس باركر، المعنون باسم «بيع سيادة مصر بثمن بخس»، المنشور في مجلة «هيستوري توداي»، تحدّث فيه عن بيع أسهم قناة السويس على يد الخديو إسماعيل، قائلاً «منذ مائة وثلاثة وثلاثين عامًا كانت دولة أخرى تقع على البحر المتوسط تواجه الإفلاس (المقصود مصر). فقد حالت الإجراءات التي أجبرها الدائنون الدوليون على تبنيها دون التعرض لانهيار مالي كامل، لكن كانت النتيجة أن فَقَدَ حكَّامها السلطة على شؤونهم الخاصة عقودًا تالية».
رُبما اختصر «باركر» أزمة الديون وبيع أسهم القناة في سطورٍ قليلة، بناءً على مشاهدات رآها وهو بعيد عن الأحداث تمامًا، مشاهدات من على الشاطئ الثاني.
بدأت القصة مُنذ عام ١٨٥٦، عندما أعطى الخديو سعيد للمهندس الفرنسي «فرديناند ديليسبس»، وشركته العالمية لقناة السويس البحرية، تصريحًا بإنشاء مشروع بناء هو قناة السويس، الذي بدأ العمل فيه في مارس من عام ١٨٥٨، وقد وفر المستثمرون الأوروبيون التمويل، لكن وقعت مهمة شق البرزخ الذي يبلغ طوله نحو مائة ميل، والذي يفصل بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، على عاتق جيش من العمال من الفلاحين المصريين، الذين لقي منهم ما يقرب من ١٠ آلاف شخص حتفهم بسبب الإرهاق في العمل أو ضربة الشمس أو الأمراض.
وبالرغم من المعوقات وتخطي الميزانية المخصصة للمشروع بشكل هائل، أُعلن افتتاح قناة السويس للملاحة في نوفمبر من عام ١٨٦٩، ويقال إن خليفة سعيد باشا، إسماعيل، قد أنفق ما يزيد على مليون جنيه إسترليني على احتفالات افتتاح القناة التي كانت مثالًا على البذخ، وقد أعلن إسماعيل باشا حينئذ: «إن بلدي لم تعد تنتمي لآسيا، فنحن الآن نتبع أوروبا».
بحلول عام ١٨٧٠، حيثُ بدأت ديون مصر تتراكم، وتفاقم الوضع المالي المتردي بانخفاض شديد في سعر القطن، نتيجة لاستعادة إنتاج القطن في الولايات المتحدة عافيته بعد الحرب الأهلية (١٨٦٢–١٨٦٥).
وحينها، بدأت فكرة بيع أسهم من قناة السويس تُساور الخديو إسماعيل، في أوائل نوفمبر سنة 1875، وكان متواجدًا في باريس آنذاك، فعلم أحد الماليين المُخضرمين هُناك، يدعى إدوارد درفيو، الحالة المالية في مصر، فأرسل الخبير المالي الفرنسي إلى أخ لهُ في الإسكندرية، يدعى مسيو أندريه، وطلب منه أن يعرض على الخديو بيع أسهم مصر في القناه، وأخبره أيضًا بأنه مستعد إذا قبل الخديو البيع أن يجد المشتري لها في باريس.
وبالفعل، ذهب أندريه بعدها إلى القاهرة، وهناك تلقى تلغرافاً من أخيه بتاريخ 11 نوفمبر سنة 1875، يبعث على الأمل في نجاح الصفقة، فقابل على إثره إسماعيل باشا صديق، وزير المالية في ذلك العهد، وصاحب الحظوة الكبرى عند الخديو، وعرض عليه الفكرة، فلقيت منه قبولاً، إذ كان المفتش يبتغى تدبير المال اللازم بأي وسيلة، ولو بتضحية تلك الذخيرة العظيمة، لأداء المبالغ المستحقة في ديسمبر، وبادر إلى تقديم الرسول الفرنسي إلى الخديو، فقص عليه نبأ مهمته، فارتاح الخديو إلى الفكرة.
وبالفعل طرح الخديو إسماعيل في عام ١٨٧٥، الأسهم التي تمتلكها مصر في قناة السويس، ٤٤ بالمائة من إجمالي الأسهم، للبيع من أجل تجنب خطر الإفلاس، وقد اشتراها على الفور رئيس الوزراء البريطاني، بنيامين دزرائيلي، الذي حصل على قرض قدره ٤ ملايين جنيه إسترليني من بنك عائلة روتشيلد من أجل شراء هذه الأسهم دون إخبار البرلمان أولًا.
وفى يوم 25 نوفمبر، تحرر عقد البيع مع الحكومة الإنجليزية، ووقع عليه كل من إسماعيل باشا صديق، وزير المالية المصري، نائباً عن الحكومة المصرية، والجنرال ستانتون، قنصل بريطانيا، نائباً عن الحكومة الإنجليزية، وفقًا لما ورد من معلومات تاريخية في جريدة «الأهرام».
وتبين قبل إبرام العقد أن الأسهم لم تكن 177.642 سهمًا كما كان مفهوماً، بل هي 176.602، أي أنها تنقص 1040 سهمًا (ألف وأربعون سهمًا)، فسوي حساب الثمن بعد استبعاد الأسهم الناقصة، فصار صافي الثمن 3.976.582 جنيهاً إنجليزياً، بعد أن كان أربعة ملايين.
والتزمت الحكومة المصرية بأن تدفع للحكومة الإنجليزية كل سنة ابتداء من عام 1875 حتى سنة 1894 فوائد 5% عن قيمة الثمن، أي 198.29 جنيهًا سنويًا، مقابل حرمان الحكومة الإنجليزية من أرباح الأسهم طوال هذه المدة.
وفي العام التالي، أنشأ إسماعيل باشا اللجنة العامة للدين، التي تكونت من مسؤولين من فرنسا والنمسا وإيطاليا، وبعد فترة قصيرة، بريطانيا العظمى، لتساعده في إدارة أزمة الدين المتفاقمة التي تواجهه، ومع ذلك قاوم الخديو بعناد الضغط الذي مارسته لجنة الدين عليه حتى يبيع بعض ممتلكاته ويقلل حجم الجيش.
وبحلول عام ١٨٧٩، ارتفعت ديون مصر لتصل إلى ٩٠ مليون جنيه إسترليني (نحو ٤.٥ مليار جنيه إسترليني حاليًا).
وفي شهر يونيو من العام نفسه، خضع سلطان تركيا للضغط الدبلوماسي الدولي الذي مورس عليه وأصدر فرمانًا بعزل إسماعيل باشا وتعيين ابنه توفيق الذي ارتأت القوى الأوروبية أنه أكثر طاعة، لم يمضِ وقت طويل حتى حددت القسطنطينية قوام الجيش المصري بنحو ١٨ ألف جندي، ومنعت توفيق باشا من السعي للحصول على ديون أجنبية دون إذن السلطان.
وكانت هذه الصفقة، التي تعد أشهر عملية بيع أسهم، كارثة على البلاد، حيث إنها مهّدت للاحتلال الإنجليزي، عام 1882، لذا قام الاقتصادي المصري، محمد طلعت حرب، بتأليف كتاب عن قناة السويس ليوضح الحقائق للعامة والخاصة عن تاريخ القناة وكيف ضاعت حصص مصر من الأسهم والأرباح وخسائرها حتى 1909م، وأوضح أن السهم الذي باعته مصر بـ 560 فرنكًا للسهم الواحد أصبح سعره بعد ثلاثين سنة فقط 5010 فرنكات للسهم، وحصتها من أرباح القناة التي باعتها بـ 22 مليون فرنك أصبحت فيمتها 300 مليون فرنك، وفقًا لموقع «تاريخ مصر».
وإزاء الضغط الشعبي، كلفت الجمعية العمومية، محمد طلعت حرب باشا وسمير صبري باشا بكتابة تقرير عن الموضوع، وبالفعل قدما تقريرهما للجمعية والذي وضحا فيه خسائر مصر المالية المتوقعة في حال تمديد الامتياز الحالي بالشروط السالف ذكرها، وبناء على هذا التقرير رفضت الجمعية العمومية عرض تمديد امتياز شركة قناة السويس وبقي الامتياز قائمًا بشروطه حتى جاء التأميم 1956م قبل نهاية الامتياز بـ12 سنة.!!